عمان – اكتسب قطاع التمويل الجماعي في الشرق الأوسط زخمًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، بالذات بعد إنطلاق منصة يوريكا للتمويل الجماعي في دبي، والتي يتم العمل حاليا على توسعتها تمهيدا لإطلاق تطبيق جديد من الشركة بميزات وفرص استثمارية جديدة في مختلف القطاعات والأسواق.
يهدف تطبيق الهاتف الذكي الذي تعمل عليه الشركة، كما تم الإعلان عنه في مارس، إلى دمقرطة الخدمات المصرفية الاستثمارية الرقمية من خلال تزويد الجمهور بإمكانية الاستثمار في الشركات الناشئة الواعدة في مرحلة قبل الاكتتاب العام وفي القطاعات النامية. وقد يغير هذا التطبيق قواعد اللعبة تماما بالنسبة لقطاع التمويل الجماعي في الشرق الأوسط بأكمله، لا سيما في بلدان مثل الأردن حيث أدت الأنظمة والقوانين الصارمة إلى خنق نموه.
على الصعيد العالمي، توسع سوق التمويل الجماعي باستمرار على مر السنين. وفقًا لغراند فيو ريسيرتش (Grand View Research)، حيث بلغ حجم السوق العالمي 10.2 مليار دولار أمريكي (7.23 مليار دينار أردني) في عام 2021، ومن المتوقع أن يصل إلى 28.77 مليار دولار أمريكي (20.42 مليار دينار أردني) بحلول عام 2030.
ومع ذلك، فإن حصة الشرق الأوسط بأكمله من إجمالي حجم سوق التمويل الجماعي عالميا لا تتجاوز 1٪، حسب الإحصاءات التي نشرتها ستاتيستا (Statista)، على الرغم من الموارد المالية الكبيرة المتاحة للاستثمار في المنطقة.
فوفقا لمعهد صندوق الثروة السيادية مثلا، تُقدّر القيمة الإجمالية لصناديق الثروة السيادية المملوكة للدولة في دول مجلس التعاون الخليجي عام 2021، بنحو 1.6 تريليون دولار أمريكي (1.13 تريليون دينار أردني)، ناهيك عن تلك المملوكة للقطاع الخاص.
وتشمل هذه الأرقام فقط جهاز أبوظبي للاستثمار، وهيئة الاستثمار الكويتية، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي. حيث لم يتم اختساب الصناديق الأخرى في سائر دول مجلس التعاون الخليجي.
وفي الوقت نفسه، فقد قدر صندوق النقد الدولي (IMF) قيمة احتياطيات النقد الأجنبي في دول مجلس التعاون الخليجي، اعتبارًا من عام 2021، بما يتراوح بين 800 مليار دولار أمريكي (566 مليار دينار أردني) وتريليون دولار أمريكي (707 مليار دينار أردني).
والجدير بالذكر أن هذه التقديرات لا تشكل الصناديق الخاصة والتسهيلات الائتمانية والمحافظ الاستثمارية المتاحة للمستثمرين الأفراد والشركات في دول مجلس التعاون الخليجي.
وفقًا لمعهد التمويل الدولي (IIF)، في يوليو 2021، فإن إجمالي الودائع لدى القطاع المصرفي في دول مجلس التعاون الخليجي بلغ حوالي 1.5 تريليون دولار أمريكي (1.06 تريليون دينار أردني)، في حين أن تقرير اتحاد المصارف العربية لعام 2016 يشير إلى أن ودائع القطاع العام في بنوك دول مجلس التعاون الخليجي تشكل حوالي 10-35٪ من أموال البنوك.
عليه، فإنه إعتبارًا من عام 2016، تشكل ودائع القطاع الخاص ما نسبته 65-90٪ من أموال هذه البنوك.
على فرض أن النسبة نفسها لا تزال تطبيق على ودائع القطاع الخاص لدى البنوك الخليجية في عام 2021، فإن حصته تصل الى حوالي 975 مليار دولار أمريكي (691.4 مليار دينار أردني) على أقل تقدير، إلى 1.35 تريليون دولار أمريكي (955.4 مليار دينار أردني). وجزء كبير من هذه الأموال يعود إلى أفراد وشركات قد يستفيدوا من فرص الاستثمار التي توفرها لهم منظومة التمويل الجماعي، بسيطة كانت أم كبيرة.
إن دل ذلك على شيء، فإنه يشير إلى إمكانات نمو كبيرة وفرص اقتصادية كثيرة غير مستغلة في الخليج والمنطقة.
فما الذي يمنعنا؟
تشكل البيئة التنظيمية الصارمة في الأردن، على سبيل المثال، عقبات كبيرة أمام نمو قطاع التمويل الجماعي.
تفرض هيئة الأوراق المالية الأردنية قيودًا مختلفة على حملات التمويل الجماعي، مثل حصر نشاط القطاع بالشركات والكيانات القانونية، واشتراط ترخيص منصات التمويل الجماعي، وتحميلها المسؤولية القانونية لضمان نزاهة الحملات.
عموما، تختلف القوانين الناظمة لنشاط التمويل الجماعي من دولة إلى أخرى في الشرق الأوسط، حتى أنها في بعض البلدان، مثل المملكة العربية السعودية، غير متواجدة من أساسه. إلا ان التمويل الجماعي للرياديين والمستثمرين الأفراد لا يزال مقيدًا في جميع دول الشرق الأوسط تقريبًا التي لديها قوانين ناظمة للقطاع وقد دخلت حيز التنفيذ. والأمر شرحه في الإمارات العربية المتحدة.
في معظم الحالات، تنفي هذه الأنظمة والقوانين صفة “الجماعة” عن نشاط التمويل الجماعي على طرفيه، من مستثمرين ومستفيدين.
حيث أنه لا يمكن للأفراد العاديين، الذين من غير المستثمرون، الاستثمار أو تمويل المشاريع والأفكار التجارية التي تعجبهم، ولا يمكن للرواد الأفراد والشركات الناشئة تمويل أفكارهم وعملياتهم دون تلبية المعايير الصارمة التي وضعتها السلطات الناظمة للقطاع.
نتيجة لذلك، فقد حولت هذه الأنظمة والقوانين قطاع التمويل الجماعي في الشرق الأوسط إلى نشاط استثماري تقليدي يدار بالتكنولوجيا الحديثة، ويبقى حكرا على الممولين والبنوط والشركات والمستثمرين الكبار.
بعبارة أخرى، فإن مصادر التمويل في قطاع التمويل الجماعي في الشرق الأوسط لا تأتي من المجتمع أو الجماعات. فهي تأتي من المستثمرين والممولين التقليديين الذين يخضعون لنفس عمليات التمحيص المالي والتدقيق ومتطلبات النشاطات المصرفية الاستثمارية التقليدية التي يرغب الرواد ورجال الأعمال الأفراد في تجنبها لأنهم في كثير من الأحيان لا يلبيونها.
كما وفي أي مكان آخر في العالم، حيث يعمل نشاط التمويل الجماعي بطريقة أخرى أكثر حرية؛ فإن جزء كبير من الأموال التي تدار ضمن نشاطات التمويل الجمالي تذهب إلى مبادرات غير التجارية ومشاريع الشخصية. وتشمل هذه الأنشطة مثلا السفر وأنشطة ترفيهية الأخرى التي يمولها العديد من الأفراد من خلال منصات التمويل الجماعي.
أما وبموجب الأنظمة والقوانين الحالية في الأردن والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى في الشرق الأوسط، فإنه لا يمكن للأفراد الاستفادة من هذا التمويل لتمويل مشاريعهم الشخصية. كما ولا يمكنهم الاستفادة من هذه الفرص لتمويل مشاريعهم الناشئة وريادة الأعمال وأعمالهم، إلا إذا استوفوا متطلبات محددة عالية المستوى تحددها السلطات الناظمة للقطاع.
ما الذي تغير؟
على الرغم من هذه القيود، فقد يتمكن تطبيق الهاتف الذكي الجديد من يوريكا من التغلب على بعض هذه العقبات التنظيمية، على الأقل في الإمارات العربية المتحدة، ونأمل أن يكون ذلك في الأردن والمنطقة بأكملها.
يربط تطبيق يوريكا الجديد المستثمرين الأفراد بفرص الاستثمار ويربط المستثمرين الأفراد والمؤسسات مع مؤسسي الشركات الناشئة. ويدل وجود أكثر من 40 ألف مستثمر من 72 دولة من بين الناشطين على المنصة الحالية على حضورها القوي في السوق والطلب المرتفع على خدماتها.
وإحدى الطرق المهمة التي يستعد بها تطبيق يوريكا للتغلب على بعض التحديات التنظيمية التي تواجه قطاع التمويل الجماعي الحالي في المنطقة هي أنه سيتيح الاستثمار للجمهور العام، وهو ما قد يؤدي إلى تحول جذري في القطاع إقليميا.
من خلال توفير منصة مصرفية استثمارية رقمية، يمكن ليوريكا تمهيد الطريق لمنظومة تمويل جماعي أكثر شمولاً في المنطقة، والتي من شأنها أن تفيد شريحة أوسع بكثير من المستثمرين ورجال الأعمال، بما في ذلك الأفراد من غير المستثمرين.
في المسقبل القريب
نظرًا للتوسع السريع في سوق التمويل الجماعي العالمي، فإن الشرق الأوسط لديه فرصة هائلة لزيادة حصته في هذه السوق.
إذا تمكنت دول مثل الأردن من تكييف أطرها التنظيمية لتسهيل نشاط التمويل الجماعي بشكل أفضل، فإنه من الممكن أن تشهد المنطقة نموًا اقتصاديًا وتنوعًا كبيرًا في نشاطاتها الاستمارية.
على سبيل المثال، تتوقع شركة بولاريس لدراسات السوق (Polaris Market Research ) أن تصل قيمة سوق التمويل الجماعي الأوروبي، التي بلغت قيمته 6.4 مليار دولار أمريكي (4.53 مليار دينار أردني) في عام 2020، إلى 17.56 مليار دولارًا أمريكيًا (12.44 مليار دينار) بحلول عام 2028، بمعدل نمو سنوي مركب (CAGR) يبلغ 12.8٪ في السنوات 2021-2028.
توقعات كهذه تسلط الضوء على إمكانية تحقيق نمو مماثل في الشرق الأوسط.
فقدرة الحكومات على التعرف على الإمكانات الاقتصادية لهذا القطاع وتنفيذها لأطر تنظيمية تناسب إحتياجاته هو ما يحدد مستقبل التمويل الجماعي في الأردن وسائر دول الشرق الأوسط.
وإذا ما نجح تطبيق يوريكا في إحداث تحولٍ في البيئة التنظيمية في الإمارات على الأقل، فقد يكون محركاً للتغيير على مستوى المنطقة بأسرها فيشجع الدول الأخرى على اعتماد سياسات أكثر ملاءمة لنشاط التمويل الجماعي.
في نهاية المطاف، إن نجاح صناعة التمويل الجماعي في الشرق الأوسط يعتمد على تحقيق التوازن بين حماية المستثمرين وتشجيع الابتكار والريادة.
ويمكن أن يؤذن تطبيق يوريكا الجديد ببدء حقبة جديدة للقطاع في المنطقة، مما يسمح لمجموعة أكبر من الأفراد والشركات بالوصول إلى فرص الاستثمار والمساهمة في النمو الاقتصادي.
أما الوضع الحالي لصناعة التمويل الجماعي في الأردن والشرق الأوسط، فهو مليء بالعقبات والفرص على حد سواء. ومن خلال إزالة الحواجز التنظيمية ودمقرطة الخدمات المصرفية الاستثمارية الرقمية، قد يكون تطبيق يوريكا هو العتبة التي يحتاجها القطاع ليفجّر امكاناته.
ومن خلال التوازن الصحيح بين حماية المستثمرين والابتكار، يمكن لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها الاستفادة من إمكانات سوق التمويل الجماعي العالمي وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام في جميع أنحائها.