لدى المملكة العربية السعودية وإيران القدرة على إقامة شراكة اقتصادية فعالة وقوية باعتبارهما من أكبر الاقتصادات في الشرق الأوسط. لكن إمكانات التعاون الاقتصادي بينهما لا تزال غير مستغلة بسبب عقود من الاضطرابات السياسية والتنافس الإقليمي الذي أدى إلى توتر العلاقات بين البلدين.
رغم ذلك، هناك مؤشرات على أن المصالح الاقتصادية للمملكة العربية السعودية وإيران يمكن أن تجمع بين البلدين، إذا ما توفّرت الوساطة الفعّالة.
مجالات التعاون المحتملة
يعد قطاع الطاقة أحد المجالات الرئيسية للتعاون الاقتصادي المحتمل بين المملكة العربية السعودية وإيران. فكلا البلدين منتجين ومصدرين رئيسيين للنفط، وكلاهما عضو في منظمة أوبك (منظمة البلدان المصدرة للنفط). وبشكل غير مباشر، قد تكون السياسات النفطية السعودية في الفترة الأخيرة قد ساعدت إيران.
فقد أدى قرار الرياض خفض إنتاج النفط في عام 2020، كجزء من اتفاق أوبك+ لتثبيت أسعاره، إلى ارتفاع أسعار النفط، مما أدى إلى زيادة عائدات إيران النفطية.
ووفقًا لموقع أخبار VAO، فقد انخفضت عائدات طهران النفطية من 100 مليار دولار في عام 2018 إلى 8 مليارات دولار في عام 2019، بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) ، والمعروفة أيضًا باسم الاتفاق النووي الإيراني.
منذ ذلك الحين وإيران تصدر ما يقارب 600 ألف برميل يوميًا، وفق أدنى التقديرات، عبر مختلف القنوات المشروعة وغير المشروعة.
بالنظر إلى متوسط السعر البالغ حوالي 90 دولارًا أمريكيًا للبرميل لعام 2022، وبفضل موقف السعودية من إنتاج النفط وأسعاره، حققت طهران 20-22 مليار دولار من عائدات النفط في عام 2022 وحده. وهذه تقديرات متواضعة، لكنها منطقية. في المقابل، تشير التقديرات الأعلى إلى أن عائدات طهران النفطية في عام 2022 بلغت حوالي 45 مليار دولار. لكنه من غير المرجح أن تكون وصلت الى هذا الحد، لأن ذلك كان سيضع حدا للاضطرابات المالية المستمرة في إيران، أو على الأقل خفف من وطأتها.
منذ أن خفضت الرياض كميات انتاج النفط في 2016، لأول مرة في 8 سنوات، وهي ثابتة تمامًا في موقفها فيما يتعلق بإنتاج النفط وتصديره وأسعاره. ومنذ أن أعلن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن رؤيته 2030 للمملكة العربية السعودية، وهو يعمل على تعظيم عائدات النفط للمساعدة في تمويل أنشطة التنمية الاقتصادية في القطاعات غير النفطية.
على الرغم من إختلاف واقع كل من البلدين بشكل كبير، فقد ساعدت مواقف بن سلمان كلاً من طهران والرياض على التحوط في مواجهة التحديات التي تعصف باقتصادات كل من البلدين، ناهيك التغيرات الجيوسياسية الاقليمية والدولية.
هل تتعارض المصالح السعودية الإيرانية مرة أخرى؟
النهج السعودية في إنتاج وتصدير النفط محسوب بدقة.
فبينما يجري العمل على زيادة الإنتاج، يتم اتخاذ تدابير وتوازنات دقيقة لتجنب حدوث انخفاض آخر في أسعار النفط في المستقبل القريب.
فمن المقرر أن يتم توسعة حقل خريص النفطي، مما قد يؤدي إلى مزيد من المنافسة مع إيران نتيجة للجهود السعودية الأخيرة لتعزيز قدرتها على إنتاج النفط. ومع ذلك، نظرًا للطلب العالمي على النفط، فقد يجد كلا البلدين أن التعاون في مجال الطاقة مربحا لكليهم أكثر من الدخول في منافسة لا تعود على أيّ من البلد بالنفع.
منذ أن غزت روسيا أوكرانيا، تراكمت الخلافات بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية حول إنتاج النفط وأسعاره. هذا، وإلى جانب الانسحاب النسبي الأمريكي من المنطقة، يضع السعودية في موقف صعب.
لذلك، يتعين على الرياض إعادة تنظيم نفسها للعثور على حلفاء جدد، مثل روسيا والصين، لملء الفراغ الجيوسياسي الأمريكي، وإيجاد طرق جديدة لإعادة التموضع في مواجهة منافسيها وحلفائها الإقليميين على حد سواء.
هذا يعني أن السعودية لم تعد قادرة على استرضاء الولايات المتحدة على حساب مصالحها دون الضمانات الأمريكية التي اعتادتها المنطقة في المقابل.
في غضون ذلك كله، لم تزل تضغط الولايات المتحدة بالعقوبات على النفط والغاز الروسي والإيراني لخنق اقتصادات إيران وروسيا. في الوقت نفسه، لا يبدو أن السعودية ستسمح بانخفاض أسعار النفط.
دون التحالف التاريخي بين الرياض وواشنطن، وفي ظل السباق الاقتصادي العالمي المستمر، فإن السعودية أمامها شوط كبير لتقطعه، وهي تعمل بدأب لتحقيق أهدافها.
كما ووفقًا لتصريحات المسؤولين السعوديين الأخيرة، فإن كل ذلك يأتي نتيجة لنهج سعودي جديد يضع المصالح السعودية قبل كل شيء؛ عقيدة السعودية أولا الجديدة، إيذانا ببدء حقبة جديدة من السياسات الخارجية المتمركزة حول المصالح السعودية دون استرضاء.
أحدث مؤشر على مثل هذه التحولات في السياسة الخارجية السعودية هو سلسلة المحادثات مع إيران، التي جرت في العراق وسلطنة عمان، ما مهّد الطريق أمام الوساطة الصينية الناجحة مؤخرًا.
بالنظر إلى المستقبل، فقد يؤدي هذا قريبًا إلى استعادة العلاقات الثنائية بشكل كامل بين البلدين المتنافسين المنتجين للنفط.
في العادة، يستحيل فهم أي تقارب من هذا القبيل في ظل استمرار الصراعات القائمة في اليمن وسوريا. لكننا شهدنا بين عشية وضحاها دولاً تتغلب على أخطر الخلافات عندما تلتقي مصالحها.
منذ وقت ليس ببعيد، كانت فرنسا وبريطانيا في مواجهة بعضهما البعض، لدرجة أن الإمبراطورية البريطانية تحالفت مع العثمانيين لمحاربة الفرنسيين في مصر وسوريا.
كما خاض البريطانيون حربا إلى جانب العثمانيين ضد روسيا خلال حروب البلقان، ثم انقلبوا لاحقًا على الإمبراطورية العثمانية وقسموا المنطقة بينهم وبين فرنسا وإيطاليا.
علاوة على ذلك، فقد كان النظام البريطاني والحكومة الألمانية النازية قبل الحرب العالمية الثانية قريبين جدًا. حتى أنهم وقعوا اتفاقية نقل اليهود، لتسهيل نقل السكان اليهود من ألمانيا إلى فلسطين، التي كانت تحت الانتداب البريطاني في ذلك الوقت.
لم تمر عشر سنوات بعدها حتى انقلب التعاون الأنغلو-جيرماني الى حرب بين الحلفاء بقيادة البريطانيين والألمان.
لذلك، فكما يتغير المد، كذلك الحال بالنسبة للتحالفات بين الدول.
ماذا سينتج عن تقارب المصالح الايرانية والسعودية؟
في هذه الحالة، لدى إيران والسعودية الكثير ليكسبوه من العمل معًا، ليس حصرا في مجال النفط والطاقة.
فالتجارة مثلا واحدة من تلك المجالات التي قد يكون فيها التعاون بين البلدين ممكنًا. فعلى الرغم من التوترات السياسية بين البلدين، فقد استمرت التجارة بين المملكة العربية السعودية وإيران بالحد الأدنى على مر العقود.
هنالك أيضا قطاعات أخرى يمكن أن يستفيد فيها كلا البلدين بشكل كبير من التعاون، مثل الرعاية الصحية والتعليم والسياحة وتطوير البنية التحتية.
علاوة على ذلك، فبينما يسعى كلا البلدين للانضمام إلى المجموعة الاقتصادية بريكس+، فإنهما ملزمان بإيجاد أرضية مشتركة للتعاون، بغض النظر عن الصراعات الجارية في سوريا واليمن.
وفقًا لتقرير صندوق النقد الدولي (IMF) الصادر في عام 2021 ، يمكن أن يؤدي التكامل والتعاون الاقتصادي بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي والدول المجاورة، بما في ذلك إيران، إلى زيادة بنسبة 1.5٪ في الناتج المحلي الإجمالي الجماعي لهذه البلدان.
أما فيما يتعلق بالنفط والطاقة، فيمكن أن يؤدي التعاون الأمثل بين إيران والمملكة العربية السعودية وحدهما إلى زيادة الكفاءة والإنتاجية بما يصل إلى 400 ألف برميل يوميًا، وفقًا لتقرير صادر عن معهد أكسفورد لدراسات الطاقة نُشر مؤخرًا.
وهي زيادة في العائدات النفطية للبلدين بمقدار 11.4 مليار دولار في ظل ثبات سعر برميل البرينت على ما كان عليه في 10 ابريل 2023، أي 78.12 دولار.
والأكثر من ذلك، أن تحسن الأمن والاستقرار في المنطقة، نتيجة للتعاون العسكري بين الدولتين يمكن أن يخلق بيئة أكثر ملاءمة للنمو الاقتصادي والاستثمار.
وفقًا للبنك الدولي، يمكن أن يؤدي انخفاض المخاطر الأمنية بنسبة 10٪ إلى تعزيز نمو دخل الفرد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بأكملها بنسبة 1٪.
بطبيعة الحال، فإن مدى تعاون طهران والرياض سيكون مسقوفا بما تتطلبه مصالحهما وطموحاتهما الوطنية. هذا إذا لم ينتهي بهم الأمر إلى تقويض بعضهما البعض.
لكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك ما يدعو إلى التفاؤل الحذر بشأن إمكانية زيادة التعاون الاقتصادي وربما حتى السياسي بين السعودية وإيران في السنوات القادمة. فكلاهم يتبع نهجا براغماتيا مؤخرا في التعاطي مع مشروعه الاقتصادي والسياسي، وهو ما ينبئ بفصل سياسي جديد على الأبواب، تتغير فيه موازين القوى في المنطقة بأسرها.